عندما نطلب شيئا ونحصل على شيء آخر علينا أن نفحص أدواتنا ونحلل قناعاتنا ونقترب منأنفسنا ونرفع الغطاء عن واقعنا, وعندما تتجه النسبة الأكبر من الغنائم المالية والمنافعالاقتصادية إلى الأغنياء ولا يصل إلى الفقراء إلا القدر الضئيل منها, فهذا يعني أننا أمام تنميةعرجاء قد تنتهي بالمجتمع إلى أزمات اجتماعية وأمنية ليس من المستبعد أن تطيح بالتنمية كلهاوتعود بالبلد إلى الوراء.
وبمثل هذه النظرة يجب أن نلتفت إلى الواقع النفسي والعاطفي الذي نعيشه اجتماعيا, فازديادالعنف الأسري وازدياد معدلات الانتحار والطلاق وانحراف الشباب والإدمان وانتشار الأمراضالنفسية وازدياد عدد الفقراء وحتى الزيادة في الحوادث المرورية كلها مؤشرات قد تبدو لنا أنهاليست على علاقة بسعادة الإنسان وراحته وحبه للحياة ولكنها كلها مؤشرات لأزمة عاطفيةنعيشها مع أنفسنا وفي بيوتنا وفي علاقاتنا الاجتماعية. فعدم الشعور بالسعادة والراحة النفسيةيجعل الإنسان يعيش في أزمة ولا ندري في أي شكل قد تنفجر هذه الأزمة, فقد تنفجر مع نفسهوتجعل منه إنسانا مكتئبا ومنعزلا ومعتمدا على حبات البروزاك لكي يمارس الحد الأدنى منحياته, وقد تنفجر هذه الأزمة في وجه عائلته لتطيح بها وتشتت شملها عندما يصبح الطلاقالخيار الوحيد للخروج من معاناة المشكلات والخلافات اليومية, وقد تنفجر هذه الأزمة باللجوءإلى الإدمان أو الانتحار أو انعدام الرغبة في العمل والتواصل الاجتماعي. وكل هذه الأمور منالممكن أن نسهم في معالجتها إذا أدركنا أنها في معظمها مظاهر لأزمة عواطف ومشاعروأحاسيس وعندما يحصل الإنسان على من يساعده ويهتم به في هذا المجال فإن الكثير من هذهالمشكلات ستتراجع كما ونوعا في مجتمعاتنا. لقد بالغنا في الاهتمام بالأشكال والمظاهر والأمورالاحتفالية وأغفلنا إلى حد كبير المعاني والمضامين النفسية والأحاسيس الداخلية والعاطفيةوكانت النتيجة أن جاءت هذه الأشكال والمظاهر على حساب سعادتنا الحقيقية في التواصل معمن نحب, فلغة المظاهر هي غير لغة المشاعر, ولغة الاحتفال بالظاهر هي غير لغة الاحتفاءبالباطن, فعندما نبالغ في المظاهر وننسى المشاعر والأحاسيس فلا نتوقع أن نحصل على ما نريدمن سعادة في هذه الحياة.
فكلما ابتعدنا عن لغة المشاعر والعواطف وجدنا صعوبة أكبر في إسعاد أنفسنا, وكلما فشلنا فيتحريك عواطفنا وأحاسيسنا من أجل التعبير عن ودنا وحبنا لمن نحبه ونوده من أب وأم وزوجةوأخت وأبناء وأصدقاء فاتنا أن نقيم علاقات حميمية تعود بالفرح علينا وبالسعادة على أنفسنا.فالسعادة عالمها العواطف والمشاعر والأحاسيس, وكلما أتقنا مفردات هذه اللغة فإننا نستطيع بهاأن نتجاوز ما يعيب حياتنا أو ينغصها من أمور مادية, وهذه الحقيقة اكتشفها الخبراء في العلومالإنسانية عندما وجدوا أن الكثير من الشعوب الفقيرة تشعر بالسعادة أكثر مما يشعر به الكثير منالشعوب المتقدمة والغنية. وهناك جملة من الأمور الأساسية التي يجب أن تؤطر نظرتنا إلىالمشاعر والعواطف والأحاسيس في حياتنا, ومن بين هذه الأمور المطلوب تفعيلها يمكن أن نشيرإلى أربعة منها:
1- المكون العاطفي في بناء العلاقات: هناك عدد كبير ومتنوع من العلاقات التي يمكن أن يقيمها الإنسان في حياته ولكن هناك علاقات لها دور كبير في تشكيل حياة الإنسان لما يستثمر في هذهالعلاقة من موارده الشيء الكثير, ومن هذه العلاقات علاقة الإنسان بوالديه وزوجته وأولادهوإخوته وأصدقائه, وعلاقته بهؤلاء يجب أن تتضمن مساحة كبيرة من العاطفة حتى يمكن أنيكون لهذه العلاقة دور مؤثر في سعادة الإنسان. هؤلاء هم قريبون جدا للإنسان فهم في الدائرةالقريبة جدا منه وعندما يوجد هناك برود عاطفي بينه وبينهم تتحول علاقة الجذب بينهم إلى علاقةتنافر وغربة, وبما أنه ليس بمقدور هذا الإنسان أن يبتعد عنهم فإن وجودهم يتحول إلى حالةطاردة للشعور بالسعادة, فكلما استطاع الإنسان أن يدخل في هذه العلاقة المزيد من العاطفة فإنالمردود منها هو المزيد من الشعور بالسعادة والعكس صحيح.
2 - لغة العواطف والمشاعر مطلوبة لكل الأوقات والأعمار: من الخطأ أن يتصور الإنسان أنالعواطف مطلوبة فقط لفئة من الناس أو لمرحلة عمرية معينة, فالأم والأب قد يقيما علاقة عاطفيةمع أولادهم وهم صغار وتتراجع هذه العلاقة إلى حد كبير عندما يتجاوز هؤلاء الأولاد مرحلةالطفولة, وقد يتصور الإنسان أن من غير المطلوب إقامة علاقة عاطفية مع الأب أو الأم,خصوصا في مرحلة تقدمهما في العمر, وأن العلاقة المطلوبة هي الاحترام والتقدير فقط. ونرىأيضا أن الإنسان قد يقيم علاقة عاطفية مع زوجته في بداية حياتهما الزوجية ولكن سرعان مانرى هذه العلاقة تبرد بحجة أننا كبرنا على مثل هذه الأمور. الإنسان ما دام هو إنسان فهو فيحاجة إلى إشباع عاطفي ولا فرق في ذلك إن كان الزواج في سنته الأولى أو في سنته الستين أوالسبعين, والأم والأب وهما في شيخوختهما في حاجة إلى إشباع عاطفي من أولادهما ولايغنيهما عن ذلك ما نبديه لهما من احترام وتقدير.
3- الأهم من الحب هو التعبير عنه: هناك الكثير ممن ليست عنده مشكلة في حبه لأمه وأبيهوزجته وبنيه وأصدقائه ومحبيه ولكن المشكلة في أنه لا يعبر لهم عما يكنه من حب لهم, وبالتالييتسلل الجفاف والبرود لعلاقتهم مع بعضهم بعضا. على الإنسان أن يكتسب المهارات المطلوبةللتعبير عن محبته للآخرين, وهذه المهارات من التي يمكن أن يكتسبها الإنسان بشرط أن يدركأهميتها ويهتم بتعلمها. هناك من لا يستطيع حتى أن يقول كلمات بسيطة تعبر عن حبه لذلكالآخر, والمختصون في شؤون الأسرة يعلمون كيف أن غياب مثل هذا التواصل ومثل هذهالكلمات من لغة التخاطب بين الزوجين هو السبب لأغلب المشكلات الزوجية التي أوصلتالطلاق عندنا وعند غيرنا إلى أرقام مخيفة.
4 - بتنمية المشاعر والعواطف يتعافى جهازنا المناعي العاطفي: إذا كان أغلب الأمراض إن لميكن كلها تصيب الإنسان بسبب ضعف أو عجز في جهازه المناعي في التصدي لمسببات هذهالأمراض, وبالتالي فصحة الإنسان مرتبطة بقوة جهاز المناعة عنده, وكلما ازداد هذا الجهاز قوةكان الإنسان في مأمن إلى حد كبير من العلل والأمراض. للعواطف أيضا جهاز مناعة وعليناتقوية هذا الجهاز لنستطيع به أن نقف في وجه المشكلات والمصاعب التي تعترض مسير حياتنا,فالزوج والزوج المرتبطان برباط عاطفي قوي هما أقدر من غيرهما على مواجهة المشكلاتوتجاوز الصعوبات, والأب الذي يرتبط عاطفيا بدرجة قوية مع أبنائه وبناته هو أقدر من غيره من
الآباء على تجاوز المشكلات التي تظهر بسبب الفروق العمرية أو غيرها. واذا كانتالمشكلات منغصات في حياة الإنسان فإننا بتقوية العواطف في علاقتنا نستطيع أن نحد من أثرهذه المشكلات في حياتنا وسعادتنا.
أخيرا يمكن القول إن المشاعر في حركتها تحرك في داخلنا حلاوة الحياة وعندما تصمت هذهالمشاعر وتخبو هذه العواطف تتولد منطقة فراغ في علاقة الإنسان مع من يحب, وبما أنالطبيعة لا تتحمل وجود منطقة فارغة مادية كانت هذه المنطقة أم معنوية, فبالتالي عندما تصمتالمشاعر والعواطف تتسلل إلينا أمور وقضايا ومشكلات تحاصر الحب في قلوبنا وتحرك مشاعرالكراهية والعداء بيننا وننتهي نحن وهم إلى حياة ملؤها التعاسة والشقاء.والله يعطيكم العافية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق