آدم سميث .. والأزمة العالمية
بقلم : د. حازم الببلاويالمصدر: جريدة الأهرام - الأحد 6 سبتمبر 2009وقعت الأزمة المالية العالمية الأخيرة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين(2008) ومات آدم سميث في نهاية القرن الثامن عشر, أي يفصل بينهما أكثرمن قرنين من الزمان, فكيف الحديث عن الربط بينهما؟ تساؤل معقول. الحقيقة أن النفس البشرية واحدة لم تتغير كثيرا. فرغم كل مظاهر التقدم التكنولوجي ورغم التراكم المعرفي الهائل, فما زالت الغرائز كما هي, ومازال القصور البشري قائما في الانبهار بالمكاسب في المدة القصيرة ولو كان علي حساب منافع أكبر في المدة الطويلة, كما استمر الخداع البصري في التعلق بالمصالح الخاصة الآنية ولو كان إهدارا وتقويضا للمصالح العامة المستقبلة للمجتمع في مجموعه. فنحن من هذه الناحية لم نتقدم كثيرا علي عصر آدم سميث وعما قاله؟ كان الرأي الغالب بين الاقتصاديين ورجال الدولة قبل عصرآدم سميث هو الاعتقاد في صحة ماعرف في النظرية الاقتصادية بمذهب التجاريين ووفقا لهذا المذهب فان الدولة لاتعدو أن تكون مجموعة من الأفراد, وأنها ينبغي ـ مثل أي فرد ـ أن تعمل علي زيادة ثرائها. فنجاح الفرد اقتصاديا هو بحصوله علي قدر أكبر من الثروة.
وطالما أن ثروة الفرد ـ تاجرا أو غير ذلك ـ تتحدد بما لديه من نقود أي من ذهب وفضة, فإن علي الدولة أن تزيد من ثرائها بالحصول علي مزيد من الذهب والفضة, ويتم ذلك بزيادة الصادرات وتقليل الواردات مما يوفر لها فائضا من الثروة ومن الذهب والفضة. فالدولة أقرب إلي التاجر الذي يسعي لزيادة ثروته من الذهب والفضة.ومن هنا جاء اسم هذا المذهب أو تلك المدرسة التجاريون وكانت أسبانيا في القرنين السادس والسابع عشر هي أكبر الامبراطوريات الأوروبية وأغناها, وصادف ذلك الوقت أن تم اكتشاف أمريكا وعلي يد الأسبان أنفسهم. فماذا فعلت أسبانيا آنذاك بهذه الغنيمة الجديدة.؟ طالما أن الثروة هي الذهب والفضة, وأن العالم الجديد في أمريكا غني بمناجم الذهب والفضة, فإن الأمر بدا واضحا: استغلال هذه الأراضي الجديدة لتزويد اسبانيا بمصدر الثروة من الذهب والفضة. فهذا هو الطريق الي النجاح والثراء. حاولت انجلترا هي الأخري أن تجد طريقها إلي الذهب والفضة, ولكنها لم تكن تملك مستعمرات ـ كأسبانيا ـ لتزويدها بهذه المعادن النفيسة, ولذلك لم يكن أمامها إلا الاعتماد علي زيادة الصادرات للحصول علي الذهب والفضة. وقد أدي ذلك بانجلترا ـ وعلي عكس أسبانيا ـ ان تعتمد علي سياسة إنمائية لزيادة الانتاج المحلي وزيادة كفاءته, حتي تتمكن من زيادة الصادرات والمنافسة في الأسواق الخارجية. وهكذا وجدت إنجلترا نفسها مضطرة إلي الاعتماد علي تدعيم قدراتها الانتاجية المحلية, وعدم الاستكانة لتلقي تدفقات الذهب والفضة من مستعمراتها كما كان الحال مع أسبانيا.وبذلك بدأت انجلترا في تطوير قوي الانتاج الداخلي فيها مما زاد من قوتها الاقتصادية. هذه هي الأوضاع التي أتاحت لآدم سميث أن يهاجم التجاريين مؤكدا أن الثروة الحقيقية هي الإنتاج, أما الذهب والفضة فهما مجرد أدوات مالية تساعد علي تسهيل التبادل وسهولته, ولكنها في ذاتها ليست الثروة. وهنا نستطيع أن نربط بين أفكار آدم سميث وبين الأزمة المالية العالمية المعاصرة. كيف؟ يذهب معظم المحللين إلي أن الأزمة المالية العالمية المعاصرة جاءت نتيجة للاسراف في إصدار الأصول المالية علي حساب الاقتصاد العيني. واصطلاحات الاقتصاد العيني والاقتصادي. المالي كما التفرقة بين الأصول العينية Realassets و الأصول المالية assetsFinancial فهذه كلها مصطلحات جديدة لم تكن معروفة وقت آدم سميث. فالأصول العينية هي السلع والخدمات وبشكل عام كل ما يشبع الحاجات بشكل مباشر أو غير مباشر, وهي تتوافر عن طريق الإنتاج. وهذا هو بالضبط ما عبر عنه آدم سميث بالثروة. أما النقود وغيرها من الأوراق المالية المتداولة فهي ليست ثروة حقيقية وإنماهي مطالبات علي هذه الثروة من الإنتاج والأصول العينية المتراكمة,فالنقود لا قيمة لها إلا بقدر ما يتوافر من إ نتاج قابل للبيع والشراء. فالثروة الحقيقية هي الإنتاج العيني. أما الأصول المالية فهي لا تعدو أن تكون مجرد مطالبات أو ديون علي الثروة الحقيقية. حقا, إن وجود النقود وغيرها من الأدوات المالية يسهل التبادل وإجراء المعاملات ويشجع علي الاستثمار في المستقبل, ولكنها كلها أدوات وليست ثروة حقيقية. فالثروة هي الإنتاج والقدرات الإنتاجية.وبذلك فإن الإفراط في التوسع في إصدار الأصول المالية في العصر الحديث لا يختلف في جوهره عن الزيادة من المعروض من الذهب والفضة عند اكتشاف أمريكا. في كلتا الحالتين ليس هناك زيادة في الثروة الحقيقية وإنما زيادة في المطالبات أو الديون علي هذه الثروة. والآن ماذا كان سيقول آدم سميث لو عاد الي الحياة وعاصر أزمتنا المالية المعاصرة؟ وماذا لو كان آدم سميث الجديد عربيا وليس اسكتلنديا؟ أغلب الظن أن آدم سميث الجديد كان سيجد أوجه شبه كبيرة بين اسبانيا في القرن السادس عشرة وبين الأوضاع الحالية للعديد من الدول العربية المصدرة للنفط. فهذه الدول لم تجد مستعمرات جديدة تزودها بالذهب والفضة كما كان حال اسبانيا, ولكنها اكتشفت وجود ثروة حقيقية ـ ولكنها نافدة ـ في باطن الأرض, البترول والغاز. فبدأت بتصدير هذه الثروة العينية الجديدة, واستخدمت جزءا من عوائد هذه الصادرات في بناء بنية أساسية محلية من طرق ومواني وشبكات كهرباء ومدارس ومستشفيات وغير ذلك. وهذا أمر جيد تستحق الثناء عليه. ولكن الجزء الأكبر من عوائد هذه الصادرات استخدم في تكوين ثروات مالية من أصول مالية متنوعة في الأسواق والمؤسسات المالية العالمية.فماذا كان سيقول آدم سميث الجديد؟ الأرجح أنه كان سيؤكد ما قاله سابقا بأن الذهب والفضة ليسا الثروة, ولكنه سوف يضيف أن الأصول المالية ليست هي الأخري أكثر من مجرد مطالبات علي الثروة, أما الثروة الحقيقية فهي الاستثمار العيني في المشروعات الإنتاجية. ولذلك فمن غير المستبعد أنه لن يجد أي غرابة في أن يري أن الفوائض المالية العربية المتراكمة تتآكل كل فترة. ففي نهاية السبعينيات وبعد صدمة النفط الأولي تآكلت معظم الثروات المالية العربية بفعل التضخم العالمي, وفي منتصف الثمانينيات وايضا في التسعينيات تآكلت هذه الفوائض من جديد بفعل حروب الخليج سواء بين العراق وإيران أو بعد غزو الكويت.. وأخيرا في بداية القرن الجديد تعرضت هذه الثروات مرة ثالثة لأشكال من التآكل بفعل الأزمة المالية العالمية. ولكن آدم سميث الجديد لن يكتفي بما قاله قبل نيف وقرنين من الزمان, فقد تعلم هو الآخر من زميله الاقتصادي الإنجليزي الآخر كينز. فقد جاء كينز في أثر الأزمة المالية في الثلاثينيات وأصدر مؤلفه عن النظرية العامة.وليس هنا مجال للتعرض الي ما جاءت به هذه النظرية, ولكن كينز أرسي علاقة مهمة, وهي أنه في النهاية لابد أن يتساوي الادخار مع الاستثمار. وهذه حقيقة محاسبية لا يمكن الفكاك منها. وبذلك فإذا زاد الادخار في بلد أو في العالم دون أن تقابله زيادة مقابلة في الاستثمار الحقيقي, فإن مصير هذه المدخرات هو التآكل بشكل أو بآخر.
وبعبارة أخري فإن الزيادة الكبري في الاستثمارات المالية لا تعني بالضرورة زيادة في الاستثمارات العينية أو الحقيقية. وهذا ما ساعد علي وقوع الأزمة كما أدي الي تآكل كبير في ثروات النفط, فنظرا لأنه لم تواكب زيادة مدخرات الدول النفطية زيادة في الاستثمارات الحقيقية في العالم, فقد كان من الطبيعي أن تتآكل هذه المدخرات بشكل أو بآخر. وهذا هو ما حدث. ولعل آدم سميث كان سينصح هذه الدول بأن الأولي بها ألا تقلد اسبانيا في الاكتفاء بتراكم الثروات المالية وإنما بالعمل علي زيادة الاستثمار الإنتاجي داخلها أو في الدول الأخري الصديقة.هذا ما يمكن أن نتوقعه من آدم سميث الجديد
ولكن المشكلة أن آدم سميث مات وكذا كينز ولم يتركا ورثة أو تابعين!!
علي الأقل في عالمنا العربي!!
2009/09/13
آدم سميث .. والأزمة العالمية
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق